الاثنين، 30 يونيو 2014

بدايات متعثرة في الخطابة والإلقاء


هناك أحداثٌ في الحياة تستعصي على النسيان.. تتلقفها الذاكرة بإجلال وتضعها في صندوق خاص كتلك التي تكون في المصارف توُضع فيها نفائس الأموال وعلائق الجواهر ومُهمات الوثائق.

*ولا تفتأُ الذاكرة في استجلابِ مشاهد تلك الأحداث وإعادة عرضها بمُتعة يطرب لها الوجدان .

*يقول الفلاسفة عن الذاكرة أنها (مُستبدة) فلا يمكن أن تفهم لم اختزنت ذاك المشهد ونسيت الآخر؟
لمَ استبقت هذا الموقف وأكرمته بالصون والعناية؟
ونفت الآخر لدهاليز النسيان وقذفت به على قارعة الإهمال.!؟؟

*لا أدري فهذه علومٌ من سُجف الغيب الذي تكثر في شأنها النظريات العقيمة والتبريرات الفلسفية المتوشحة بلوثات مجانين علم النفس .

*أما أنا وأنت أيها المسلم فآيةٌ واحدة من كتاب الله نرددها بكل تعظيمٍ يملأ جوانب قلوبنا للذي أحسن كل شيء خلقه .
(وما أوتيم من العلم إلا قليلا )

*أعود لذاكرتي (المستبدة) فأجدها البارحة أعادت لي مشهداٌ بكل تفاصيله الدقيقة.
شابٌ غرٌ صغير في أوائل المرحلة الثانوية يلبس شماغاً مال (مرزامه) وطال أحد أطرافه حتى كاد يمس عقب رجله وقصر الآخر حتى داعب شحمة أذنه... وهو لا يفتأ يصلحه بين الفينة والفينة تشاهده فتدرك أنه حديث عهد بلبس (الأشمغة ).

*يمشي فلا تُخطيء عينك عرق جبينه المتصبب خجلًا.
كان المكان محفلاً اجتمع فيه نُخبة من رموز الدعاة يناقشون فيه ( الإلقاء وطرائقه ) .
نظر الفتى بإجلال لهؤلاء المشاهير وهم يتحدثون عن تجاربهم في الخطابة ومسالكهم في مهارات الحديث وفنون الكلام.
يرمقهم ثم ينظر لحاله بينهم فيرجع إليه البصرُ خاسئاٌ وهو حسير.
يهمس لنفسه معاتباً يلتقطُ أنفاسهَ ويبلعُ ريقه :
مالذي رماني بهذه الداهية الدهياء؟
ويح نفسي كيف سألقي بين هؤلاء القامات السامقة؟

*قطع عليه اشتجاره مع نفسه صوتُ الشيخ وهو ينادي عليه باسمه:
جاء دورك فتقدم.
أُصيب الشابُ بشلل لحظي أشعره أن قدميه تسمّرت بالأرض.
كرروا النداء عليه :تقدم المجال مفتوح لك
شاغلَهم بابتسامةٍ بلهاء صفراء ريثما يستجمع رباطة جأشه ...ثم قام يمشي كأنما (يُساق إلى الموت وهو ينظر).
يكررون النداء : تقدم
فما كلمةٌ أشق على مسامعه منها.
لم يكن كحال عنترةِ الذي أعجبه قولهم له :تقدم
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك عنترة أقدم
ِ
*وصلَ منصةَ الإلقاء فكأنها مقصلةُ الإعدام.
تحدثَ ورجلاه تتراقصُ فرقاً ويداه تنتفضُ هلعاً
عاجلَهم بإنهاء خطابِه قبل أن يعاجله الإغماء.
ورجع أدراجه صوبَ مقعده.. وألتقط كأس الماء يرطب به شفته اليابسة وهو يسمع تقييم الحضور لعبثه الذي يُطلق عليه مجازاً (إلقاء)!!!

*تحدثَ الأولُ والثاني والثالثُ عن جوانب القوة والضعف في إلقائه فلمْ يعلق بذاكرته من كلامهم شيئا.
لكنّ الرابعَ لما تحدث أثنى بسخاء على ما أسماه هو (براعة الاستهلال) وتنبأ للشاب بمستقبل مشرق في عالم الخطابة.

*كان الشيخُ يثني عليه بكرمٍ باذخ 
فانفرجتْ أساريرُ الشابِّ المسكين وطفق يتابع كلام الشيخ بنشوة وحبور.
وانتهى اللقاء 
وتفرق الجمعُ
وسهر الشابُ ليلتَه يسترجع تشجيع الشيخ وحلوَ ثنائه .
وكبر الشابُ الصغيرُ
وجمعته الأيام بشيخه يُلقيان على الهواء مباشرة في قناة فضائية.
انتهت قصة ذلك الفتى

وبقي منها :
أن ذلك الشاب الصغير هو كاتب هذه السطور
الذي مازال يلهج بالدعاء والثناء لذلك الشيخ المربي القدير.

إضاءة أخيرة:
لاشيء أنفع من التشجيع أيها المُربّون.


عبدالله الحويل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نشرف بتلقي تعليقك
ونشكرك على التكرم بالمشاركة